كتب جان رطل
الدخول الى كتاب الدكتور طنوس شلهوب الصادر عن دار نلسن "قبل ان تنطفئ الذاكرة" يضع القاريء أمام سردية ملحميّة لسيرة الناس الذين صادفهم الكاتب، والأماكن، والانتماءات بمعونة جولة العمر، وما صادفها من الانتماء السياسي الى العائلي إلى سيرة حياة شخصية فردية، وفي الوقت عينه، ما يحيط بها من حضور مجتمع يفوح بأسلوب ينضح بلغة شفافة جمعية، عارمة بالأحداث والتفاصيل، تغلب عليها الحساسية الشعرية الصافية في أكثر من موقع ومكان وأحداث.
هذا مع العلم أن الدكتور طنوس متخصص بالهندسة الميكانيكية مما يفترض أن يجعله ذلك بعيداً عن لغة الأدب، والسيرة، وما شابه الأمور التي طفحت في كتابه صوراً جميلة، وغزارة ملحوظة، وذاكرة تكاد لا تنسى شيئاً من مسارات الحياة المعاشة من الطفولة وسنيها الى خاتمة الكتاب المؤلف من 577 صفحة.
تضعنا المقدمة أمام النشأة الأولى للكاتب تحت أشجار الزيتون في بيت الجدة التي احتضنت سنواته الخمسة الأولى في قرية "دير ميماس" الجنوبية. هذا الأمر يمرّ أيضا على غلاف الكتاب مصوِّراً شجرة زيتون معمرة على يمينها إعلان يحدد ضيعة "غلبون ترحب بكم" وعلى اليسار إعلان تعريفي لقرية "دير ميماس" . ويدخل في المقدمة ليحدد انتماءه للمنطقة، والانتساب لمدرسة الحزب الشيوعي، وامتهان السياسة، وكما ترافقه مع انطلاق الحرب، والمجازر التي رافقتها.
من ثم يرافقنا الذهاب إلى موسكو لإنجاز الدراسة الجامعية التي أمضى فيها عشرة سنوات لدراسة الهندسة اختصاص العنفات البخارية، والغازيّة لتكون الدراسة في موسكو ما ستحوله الى مهندس لا يتوقف عن طلب العلم إنفاذا لوصية والده. وقد أمضى "د. طنوس" 35 سنة يعمل ويدرّس في الجامعة اللبنانية، وفي غيرها من المواقع.
يحدد للسيرة التي يكتبها لكي لا تموت الذكريات. عرف فيها الحماس كما عرف كم هو صعب أن تكون أبا في زمن الحروب، وأنت دائما متوقعاً تواصل القتل، والتعرض له، والتهجير، فينسلخ واحدنا من الأرض قلقاً على الأولاد ذاهبا الى غربة لا مفر منها. فهو يكتب ليتذكر موسكو، وجامعة الصداقة فيها، والثلوج، واكتشاف كل جنسيات العالم الموجودين فيها؛ هناك وسط كل الكتب والحوار وتشكلات فكرة الإنسان الذي يحارب من أجل العدالة.
بعد المقدمة اتى الحديث عن، مونولوغ : و باء الكتابة، أخبر فيه عن تعرّفه على القراءة في مكتبة "دير ميماس"، وناديها الثقافي الذي كان مجال بوح مع صديق إسمه مروان الذي خسر كل ما كتبه بسبب حريق تعرض له بيته. ومع ذلك لم يتخلَّ عن عادة القراءة التي كان والده متعلقاً بها جداً، ويشتري له الكثير من الكتب، مما أوصله لكتابة نصوص من الشعر بالعربية وبالفرنسية.
هذا بالنسبة لصديقه، أما هو فقد زاد عليها إنه درس حتى وصل إلى الدكتوراه بالهندسة، وفي الوقت عينه، كتب دراسة عن أم كلثوم، وزكريا أحمد، والشيخ إمام، وأحمد فؤاد نجم ، وزياد الرحباني في أغنيته الأثيرة "أنا مش كافر”.
بعدها انتقل الى مغامرة "وديع"، والد الكاتب الذي عشق "أحلام" زوجة مخلوف مدير محطة القطار، وكان ثمرة هذه العلاقة صبي أسموه "جورج" وفاء لنذرٍ بعد سنوات طويلة من انتظار ولد ثمرة لزواجهما ( مخلوف و أحلام ).
وكعادته في تواصل الكتابة كان د. طنوس يكتب عن الماضي البعيد، ويعود بعدها إلى سرد مرحلة أقرب إلى حاضر أقرب، فينتقل إلى حكاية طنوس الجدّ الذي عاد من البرازيل سنة 1916 بعد أن أمضى قرابة العشرين فيها، عاد مع زوجته مرسيليا شاهين وأربعة أولاد : سليم، أدال ،ألبرتين ،و سوتو. وقد جمع هناك ثروة من انتاجه للحرير وزراعة التوت. بدّل عند عودته اللباس القروي، وقد تحرر بأفكاره، وصار يجاهر بأن الكنيسة لا تمثل القداسة، وتعاليم المسيح، مما جعل المطران يستدعيه ويهدده بالحرمان الكنسي.
في السنة الأولى لعودته، فجع بموت زوجته مارسيليا التي وقعت عن الشجرة، وارتطم رأسها بحجر، فرحلت ولم تتجاوز 35 عاماً عن أربعة أولاد كبيرهم لم يتجاوز 15 سنة، وصغيرهم لم يصل السادسة من عمره.
بعد رحيل مارسيليا وجدت ابنة الجيران، جنفياف ابنة عيسى الخوري، انها ترعى أولاد طنوس الذي قرر ان يطلبها للزواج. ومن هذا الزواج ولد جد المؤلف طنوس، وديع، وبعده انطوانيت، مالك و بعده مونيكا. خسرت العائلة من الزوجة الأولى سليم الذي عمل بسكة الحديد لسوريا و لبنان، مُصاباً بالتيفوئيد، وتبعته أخته أدال بعد العدوى منه بثلاثة أشهر.
بعد هذه الخسارة بولدين، انكفأ الرجل وبقي ثلاث سنوات منعزلا عن الدنيا. خلال هذا الوقت ذهبت ابنته البرتين الى مصر ملتحقة بدير راهبات ام الله آخذة لها اسم سانت ماري أنطوان.
عاش ابناء الزواجين في عائلة كبيرة لا تفرقة بين أفرادها. ومصادفة عرف المؤلف، من أحد أعمامه أن جدته أم وديع ليست أما لكل الأولاد. عند هذا الحد جاء وفد من القرى المجاورة وجلسوا مع الجد طنوس، وأقنعوه بحاجة أهل البيت له، ويجب مواجهة ما يحتاجه البيت، فاستسلم وجلس يحلق ذقنه، وتخلى عن الحداد الى حياة متحركة وبدأ بذلك يستعيد البيت أنفاسه. وأبقى حزنه مع ذلك في أعماقه.
كان والدي ، يقول المؤلف، قد جمع من راتبه في بيروت مالًا قرر ان يصرفه لأجل هدية لوالده كانت عباءة مقصبة فاخرة. وعده أبوه ،جد الراوي ، إنه لن يلبسها إلا في عرسه لوديع .لم يلبس الجد العباءة، وبقيت شاهداً ساكتاً، لأنه توفي قبل زواج وديع، وتركت بالخزانة في صندوق تحكي حكاية معلقة بين الحياة والموت.
عن جده أبو جورج يقول : بعد اللقاء في بيت الكساندرا الخياطة، وتعرّفه على بنت في هذا البيت الذي كان واحدا من البيوت التي يجتمع فيها الشيوعيون، وكان اللقاء الأول مع الرفيقة "جوليات" ابنة سليمان مرقص – من دير ميماس على حدود فلسطين، وكان يكنى بسليمان نعمة نسبة لوالده – كان عسكريا في الجيش الفرنسي، وخدم بعدها فترة قصيرة في الجيش اللبناني.
أنشأ سليمان بستاناً في منطقة المدوّر على منحدر مُطِلٍّ على نهر الليطاني نزولا يمثل قمة طريق جسر الخردلي، إلى أن يصل على نقطة تطل على دير ميماس.
احتوى البستان أفضل انواع الفاكهة: الحمضيات والرمان والمشمش والخوخ الأبيض والأسود، والتفاح الى جانب الخضار الموسمية .عرف بمهاراته بتطعيم أشجار الفاكهة حتى أصبح بستانه مفخرة.
جد سليمان عندما كان شابا نزح مع خمس أشقاء من زغرتا، وتفرقوا في مناطق مختلفة من لبنان وسوريا وفلسطين بعد عملية ثأرية. الشاب الهارب من زغرتا المارونية تزوج واعتنق الأرثوذكسية. ومع الأزمة المعيشية الحادة، التحقت عائلات أرثوذكسية من مرجعيون بكنيسة اللاتين التي كانت توزع لرعاياها حصصا تموينية ، وبقي اخوته في خانة الروم الأرثوذكس. كانت جولييت الطفل الثالث بين ستة أولاد: فتاتان وأربع صبيان. غالبا ما كانت تجد نفسها تحت رحمة شقيقها و شقيقتها الأكبر منها. وعندما تطلب والدتهم مهمة تقع على عاتقها: جمع الحطب للموقدة، حمل أثقال البلان، وكان يمارس عليها الضرب. في سجلات العائلة لا وجود لاسم جولييت فالمختار نسي الاسم، وكتب بدل عنه "إجاني" بدل "إجيني" أيضا.
تميزت جولييت بذكاء قوي وصودف إنها في الصف الثاني أجابت وحيدة على مسابقة في درس الحساب كان سبق للمعلم ان شرحه. ومع ذلك ضربت مع كل صبيان الصف. وعندما علم شقيقها جورج بالموضوع منعها من الذهاب الى المدرسة، فانتهت رحلتها الى المدرسة بذلك، وعندما أخذ الحزب الشيوعي في الضيعة قراراً يحظر على أعضائه والأصدقاء اللعب بالقمار، رفضت رد التحية على الرفيق منيف، وأغلقت الباب بوجهه عندما اتى لزيارتهم لأنه خالف قرار الحزب، وقامر ليلة رأس السنة. لقاءات وديع و جولييت عند الكسندرا بين وقت و آخر وصلت الى لقاء للتعرف على من هو المرشح "لمنصب" الصهر بحسب الأصول.
تكثر العناوين والأخبار المتواصلة مع كاتب "قبل ان تنطفئ الذاكرة" ومن العناوين: مغامرة الترجمة من الروسية للعربية 120 دولار للكتاب بعد اقتطاع الناشر مسبقا منها ضريبة الدخل من التعليم في معهد الفنون الفرع الرابع.
بعد طول انتظار، تقلصت المواد إلى أن أصبحت نصف مادة لا تتجاوز ال 75 ساعة لتدريس "مقاومة المواد". وبدل الأمل بتعاقد زهري في الفرع الأول في طرابلس كان الجواب لا مواد الآن في الفرع. النقطة الإيجابية السفر الى ليبيا حيث حصل على معاش محرز يصل 1200 دولار ويسلم منه 800 دولار.
اما عناوين ما توالى من فصول فهي: ابن العم، النجاة الأولى، الابتزاز، مدرستي الرسمية ، التشكّل ، النجاة 1958، البدايات ،مفاتيح اللغز، الانفجار، الخدمة العسكرية الإلزامية، العبور من خرم الإبرة، ديرميماس ، جامعة الصداقة جامعتي، موسكو القلب، الرابطة، الدراسة ، الساحة الحمراء ،معهد الطاقة، صوت سيبيريا، من الصفعة الى الأمل ،المركز الثقافي البيريسترويكا و نوفيكوف، العودة الى طرابلس، التعليم، جمعية الخريجين، الحزب ،حبر و نبيذ، البحث عن الله، غلبون – انشودة أبي، زهرة، الربيع الذي لن يأتي .. أينك يا حسن؟، سقط ليبقى الزعيم، كيف أحرجني الرفيق لينين ،هكذا نشأنا!، أجمل الأمهات، صورة من وجه أمي، كتاب، الصورة ان حكت!، ام مالك وانطفأ القنديل، وردة لذكرى ابو بشارة، في رحاب روح روسيا العظيمة!، كانت مرحلة الانجيل، الى المسيح في عيد ميلاده، نخبكم ايها الاصدقاء!، مونولوغ الاحتضار في موسم الطائفية، طائفيو الشعب العنيد، القلق الحب، أنا مش كافر من زياد الرحباني الى الشيخ إمام!، العزلة، في الخلاص المسيحي، الجنون الأميركي ولعنة التاريخ، زغلول الدامور يطوي الصفحة!، تحية للمايسترو باركيف تسليكيان ،هكذا ترحل الطيور.
هذا التعداد للفصول والمقالات الواردة في كتاب الدكتور طنّوس شلهوب وما سبق من ملخصات هو بشكل من الأشكال محاولة لقراءة ذاكرة الكتاب الدسمة ورغبة في تشجيع التعرف على مضمون الكتاب لقراءته قبل ان تنطفىْ الأحداث والذاكرة.
"قبل أن تنطفئ الذاكرة" للدكتور طنوس شلهوب: بين السيرة والانتماء وجولة حول رحلة العمر
الكلمات الدالة
19 مشاهدة
01 ديسمبر, 2025
370 مشاهدة
23 نوفمبر, 2025
113 مشاهدة
24 أكتوبر, 2025