كَتَبَ روني ألفا
مدير مكتب لبنان في شبكة الميادين الإعلامية
قداسة البابا،
أكتب إليك من محبرة الجنوب وحبر البقاع وقلم ضاحية بيروت الجنوبية. من أرضٍ تعرف أنين الصمت كما تعرف طعم البارود.
أكتب كما يكتب الجرح نفسه على ظاهر اليد. ننظر إليك. ننتظر صلاتك. لكننا لا نخلع جلودنا. ولا ننسى شهداءنا. دمهم على ترابنا، وفي صلاتك حين ترفعها نحو السماء.
نرحّب بك، نعم. فالفرح يتسلّل رغم الجراح. ولكن خلف ضحكات الأطفال ظلٌّ طويل. ظلّ مسامير المسيح. نسمع صريرها كلما مرّت رياح الجبل. تذكّرنا بأن بيننا وبينك خشبة واحدة، وبيننا وبين عدونا المسامير نفسها ذاتها التي غُرِزَت في عِظام المسيح .
نحن نصافح الرحمة، لكن لا نصافح القاتل. نُسامح الضعيف،
لكن لا نُسامح من يزرع الموت،
ولا من يبتسم وهو يضغط على الزناد.
تقول إن صانعي السلام مباركون.
نعم. لكن البركة لا تُمنح لمن غطّى دمه بآياتٍ مسروقة، ولا لمن حمل الإنجيل بيد، والقصف بيدٍ أخرى.
لبنان يستقبلك، الجنوب والبقاع والضاحية وكل لبنان يستقبلك،
القرى التي لم يتبقَّ فيها سوى الرماد تستقبلك. لكنها لا تنسى.
ولا تنحني. هنا لا تُقاس المسيحية بعدد الشموع على المذبح، بل بصلابة الذين يشبهون القديس إسطفانوس حين انهالت عليه الحجارة وبقي قلبه مفتوحًا للسماء.
هنا الإيمان يحمل أثر أغناطيوس الأنطاكي وهو يمضي إلى روما،
يعرف أن الوحوش تنتظره، ومع ذلك همس: «دعوني أكون قمح الله». هنا يعلو صدى بربتوا وفيلستي، اللتين لم تُسقطهما السياط، ولم ينتزع السيف من صدريهما اليقين. هؤلاء هم آباء النور الأول. شهداء القيامة ومن دمهم قامت كنيسة لا تخاف النار،
ولا تتراجع حين يشتد ليل الطغاة.
ومن جذوتهم نقتبس نحن،
لأن ما بين شهيدٍ من قرطاجة
وشهيدٍ من الجنوب خيط واحد:
إيمان لا يساوم، وقلب لا يُطأطئ،
وموت يتحوّل إلى قيامة جديدة.
نحن أبناء هذه الأرض. نسمع صرخة مريم حين رأت ابنها معلّقًا،
ونسمعها كلما سقط طفلٌ جديد.
وما زالت الصرخة نفسها تتردد في ودياننا، كأنها تعود إلينا مع كل فجرٍ مكسور.
قداسة البابا، لا تطلب منا أن ننسى، ولا أن نرتّق الجرح بالإيماءات، ولا أن نضع يدنا في يد من دقّ المسامير في جسد مسيحنا فالعدو الذي يقتلنا اليوم
هو امتداد لأولئك الذين ظنّوا أن بإمكانهم خنق الحقيقة
حين علّقوا المسيح على خشبة. لكن الحقيقة نهضت والنور لم ينطفئ ولم تنطفئ معه الشعوب التي تُجلَد ولا تستسلم.
نحن لا نترك محبتنا. لكن محبتنا ليست رخوة. إنها تحرس البيت،
وتسند الجدار، وتنهض مع الفجر لتحرس الطفل من رصاصة. نحن لا نترك مقاومتنا. لن نتركها أبدًا لأنها ليست شعارًا بل نبضٌ تحت الضلوع، نبضٌ يعرفه كل من سمع ترتيلةً في كنيسة الجنوب
حين يختلط صوت الكاهن بأزيز الطائرات.
تعال إلينا، وانظر في عيون الذين نجوا. سترى أن الإيمان لم يمت،
بل صار يشبه إيمان الشهداء الأوائل: حادًا، مشعًا، مستعدًا لأن يُداس لكنه لا ينكسر.
تعال، واسمع الحكاية كما هي، من دون زينة، من دون أقنعة، ومن دون بيعٍ للوهم. هذه كلمتنا.
وهذا هو لبنان الذي يقف أمامك،
مفتوح العينين، مرفوع الرأس، وقلبه، رغم كل شيء، لا يزال يصلّي.
الكلمات الدالة
19 مشاهدة
01 ديسمبر, 2025
371 مشاهدة
23 نوفمبر, 2025
113 مشاهدة
24 أكتوبر, 2025