مجموعة أعمال يعرضها غاليري تانيت للفنان اللبناني جاك فارتبديان، تحكي بصمت ما يخبئه التجريد من اللامعنى، وتختزن بهدوءٍ وسكينةِ ألوانٍ وخطوطٍ، اضطراباتٍ وفوضىً وتضارباً، تحفّزها كيفيّة توزيع الأعمال في الصالة.
يجري المعرض تحت عنوان "آسف للمقاطعة" (Sorry for the Interruption)، ويضع عناصره بمواجهة بعضها البعض، في تعارض دائم، وكأنه يرى الكون قائماً رأساً على عقب.
الفنان لبناني، مما يطرح تساؤلات عن مقاصده المنعكسة من واقع لبناني مضطرب، قلق، مشوب بالتناقضات، والصراعات، واللاتناسق، دون أن يظهر أي من هذه العناصر في الأعمال، الباردة اللون، الباهتة عن قصد، يضمحل الشكل فيها لصالح فكرة غير معبّر عنها. إنه التجريد الطاغي على الأعمال.
تعارضات العمل تبدأ بتساؤل للفنان عن المغزى من "السكن في مساحة لم تُخْلَق لاستيعابك"، بحسب نص له مرافق للمعرض، مما يشي بعدم صلاحية الوطن للحياة، أي مبررات ومعاني الهجرة، وخلفياتها المنغرزة في توترات الحروب الدائمة، وفقدان عناصر الحياة بالتدريج، حتى الانعدام الذي أفضى بالملايين من أبنائه للرحيل.
اللوحات متعارضة في أحجامها فمنها ما هو صغير جداً، لكن متباعدة، غير متداخلة، وبين فراغاتها مساحات حرية واستقلال، ومنها ما هو كبير الحجم، وفيه تعبير عن ضخامة الأشياء، وتداخلها بعضها ببعضها الآخر، وهو تناقض واضح، فبينما يفترض بالأصغر حجماً أن يكون متداخلاً، فإذا به مستقل، وبينما يفترض بالأحجام الكبيرة ان تكون متباعدة، لكنها متداخلة بمساحات "تُخْتَرق فيها الغيوم بالحدائق، ونباتات لا تتعايش، تُخلق لتتشارك الأرض"، بحسب تعبيره.
وفي الوقت الذي لا تتجلّى في اللوحات عمليات التباعد، والتعارض، بين الكبير والصغير، والعكس من ذلك، فإن توزيع الأعمال يفي بالمطلوب على هذا الصعيد، حيث "عبر غرفتين، يتكشف المعرض في تناقض: مشاهد واسعة النطاق تُقاطع بعضها البعض، بينما تُحاول أعمالٌ أصغر حجمًا التجمع والتواصل، أو ببساطة الحفاظ على شكلها في عزلة”.
في هذا التوزيع للأعمال في الغرفتين، كأن الفنان يقسم العالم إلى طبقتين، الطبقة الكبرى التي فيها تتضارب الأشكال، وتتعارض المسافات؛ هو الصراع الناجم عن ممارسات وطموحات هذه الطبقة، المكتنزة للجشع، والمتنافسة على المساحات، والمسببة للتوترات، والتصادم، بينما تتعايش الطبقة الصغيرة فيما بين مكوناتها، رغم تنوعها الواسع.
تحضر الزهور والنباتات على شكل خيالات، كأنها الوهم، ورغم اختلافها لوناً وشكلاً، لكن تماهيها، واختفاء حدودها، وعدم اتضاح الخطوط، وما تشير إليه، يرى الفنان فيها بيئة خيالية لا تنسجم مع التناسق النباتي، ويعتقد إنها "تحدٍّ خيالي للمنطق النباتي، وتظلّ أشكالًا غير مناسبة للتعايش”.
ويتابع أن ما يبرز ليس كلًا متناغمًا، بل منظر طبيعيّ يشكّله النزوح والتكيّف والثبات الهادئ للأشياء في غير مكانها، بذلك يعود للإيحاء عن مقاصده التي ربما هي غير واضحة في ذاته.
إشكالية من يسبق الآخر، العمل أم معناه، التنفيذ أم التفسير، أسئلة تُطرح بالترافق مع ضبابية المشهد "اللوحاتيّ"، حيث يستكشف المعرض كيف يُمكن أن يكون الانقطاع أسلوبًا للرؤية. لوحةٌ تقطع أخرى. تظهر زهرةٌ وحيدةً، لكنها ليست معزولةً تمامًا. لا شيء يبقى دون انقطاع"، يقول النصّ.
وفي ظل التساؤلات الموجهة لنفسه قبل المشاهد، يستدرك الفنان في بحثه عن التفسير، وكأنه عثر عليه، أو يكاد "لعلّ هذه هي الفكرة. يطرح العمل أسئلةً أوسع. هل يمكن للخيال البيئي أن يكشف عن حقائق عاطفية؟"
وبين النظام الطبيعي والمنطق المُخترع، يتجذّر العمل في توترات هادئة: "ماذا نرث عندما نرث التشرذم؟ ويتساءل ايضاً، كأنه في بحث عن إشكاليات الواقع والخيال: "هل يمكن للوحة أن تحمل في آنٍ واحد حقائقَ متعددةً متضاربة؟
الفنان
جاك فارتابديان (مواليد 1987، بيروت) فنان لبناني أرمني، يقيم ويعمل في بيروت. تمتد ممارسته الفنية إلى الرسم والتركيب والأعمال التعاونية. مستلهمًا من تجاربه المعاشة، والسياق السياسي، والذاكرة البصرية، يبني بعمله عوالم صورية هشة، حيث يصبح الانقطاع أسلوبًا للرؤية.
حصل فارتابديان على بكالوريوس وماجستير في الرسم من المعهد اللبناني للفنون الجميلة
(Lebanese Institute of Fine Arts).
أقام معارض فنية في أنحاء الشرق الأوسط وأوروبا، بما في ذلك بينالي BJCEM (ميلانو) و"آرت سنترال" (هونغ كونغ).
حاز على جائزة مؤسسة سرادار للرسم (2015) وجائزة مؤسسة بوغوصيان للرسم (2016).
معرض "فارتبديان" تجريد تعاكس وتشرذم في "تانيت"

الكلمات الدالة
21 مشاهدة
13 أكتوبر, 2025
21 مشاهدة
13 أكتوبر, 2025
26 مشاهدة
13 أكتوبر, 2025