"علينا أن نفهم الماضي لنتأكد من أن تراثنا لا يزال على قيد الحياة”.
بهذه العبارة، يستهل متحف نابو معرضه الجديد بعنوان "هويتنا ورموزنا"، يستعيد بها ميثولوجيا الرموز والزخارف الانسانية الكامنة في فن التطريز في حضارة بلاد الشام القديمة، بلوغاً للعصر الإسلامي بِحِقَبِه المختلفة، ويطلّ على المستجد من تطورات، خصوصاً على المستوى الفلسطيني.
يربط المعرض مراحل التاريخ المختلفة، بدءاً من اختراع الانسان الإبرة من العظام، معبّراً عن قناعته أن فعل الخياطة أو التطريز لم يكن مجرد تقنية عملية، مؤكداً إنه "كان لحظة تأسيس رمزي ربط فيها الانسان بين المادة والنظام الكوني”.
ويفيد نصّ مجسّم يستوقف الزوار لدى ولوج المتحف، أن "الأقمشة تحوّلت منذ فجر التاريخ إلى مساحات مُشَفَّرة، تدوَّن عليه المعتقدات، والميثولوجيا ودورات الزمن، والخصوبة، كما تعبر المجتمعات الزراعية الأولى فيها عن فهمها للنظام الإلهي، وانعكاسه على حياة الانسان والأرض”.
القاسم المشترك بين مختلف مراحل تاريخ المنطقة، والتي يستجلي التراث بها روابطها الحضارية، وتفاعلاتها فيما بينها، وتبادل الخبرات والثقافات، والمعتقدات، والرؤى هو استخدام الرموز ذات الطابع الكوني الميثولوجي، مثل شجرة الحياة، والمُعينات، والنجوم، والطيور، وهي، حسب النصّ، رموز استخدمت لغايات دينية، أو وقائيّة، أو احتفالية لا تزال حاضرة اليوم بمعانٍ متحولة أو مضمرة”.
كذلك، يستكشف المعرض دور أنواع الزينة، ومستوياتها، وبساطتها او دقتها، أو تفصيلياتها، في تحديد الانتماء الطبقي، أو الديني، أو الطقوسي، "عندما كانت الأزياء تُلْبَس في مواسم أو احتفالات مُعَيّنة”، وهي ممارسة لا تزال تتردّد بقوة موروثة في الممارسات الاجتماعية، والطقوس الدينية حتى عصرنا الحاضر.
في عمل ضخم، فيه مئات الرموز، والصور، والفساتين، والنصوب، والرسوم التي تغطي طبقتي المتحف الواسعتين، لا بدّ من تقسيم المعرض إلى توليفات متجانسة، وأقسام يربط بينها عامل مشترك، وقد اختير أن يكون تاريخ الحقبات التي تمثّل كل مجموعة عصراً من العصور.
المجموعة الأولى
تبدأ رحلة المعرض الطويلة ب"المعاني الأسطورية في التكوين الزخرفي” حيث يرتبط عالم الميثولوجيا، والأساطير القديمة بالاعتقاد الديني لأن تراث زخارف المعابد، وملابس الكهنة كان يتّخذ شكل قصص تدور حول الآلهة.
يحتوي القسم روايات عن الإله "أريدو و"آن" و"إنانا" و"أنليل، وكان الكهنة يرتدون ملابسهم على شكل سمكة خلال طقس التطهير، وذلك ما أوضحته، بصورة عامة، شروح مرافقة لكل عمل.
وحول العنوان، ظهرت رسومات شواهد من صخور نهر الكلب ترسم تخطيطاً للحضارة الأشورية من القرن السابع ق.م. ولوحة الملك الأشوري أسرحدون، وتماثيل من الفن البابلي القديم، مستهل الألف الثاني، وأخرى من الألف الثالث، وفن أشوري حديث، وثوب احتفالي للملك أشور بانيبال، وأثواب أخرى لملوك العصور المختلفة.
المجموعة الثانية
تضمنت المجموعة التالية "زخارف الملابس الأشورية”، وارتبطت بالمعتقدات السحرية الأسطورية، التي ترمز إلى طرد الأرواح الشريرة، وكشف الفأل السيء، وكانت العناصر الزخرفيّة مظهراً من مظاهر الأبّهة، والتعبير عن القوة العسكرية، استُخدِم فيها التطريز الملوّن، وخيوط الذهب، والفضة.
وقد ساهمت أشور بنصيب وافر في ابتكار الأشكال الزخرفية التي زينت معبد عشتار في أشور، وفي ماري، كما تولع الفن الأشوري باللّون الأزرق، والأصفر، والأحمر، ولعبت الألوان دوراً هاماً في حياة الأشوريين، فاللون الأحمر لطرد الأرواح الشريرة، والأبيض رمز النقاء، والأزرق بالصعود إلى السماء.
تكريساً لهذه المظاهر، عُرِضَ رسم للباس الملك الأشوري سنحاريب بدقة في التطريز لأشكال الزهور ولشجرة الحياة، مُحَلّاة بأشكال زخرفية مصنوعة من خيوط الذهب. ومن الفن الأشوري، تمثال أشورناصر بال الثاني (القرن التاسع ق.م.) من المرمر، أو ثياب آشورية لضابطين من الجناح الملكي الخاص بسرجون الثاني (حكم الامبراطورية الحديثة من 721 إلى 705 ق.م.) قادِمَين من خورسباد.
كذلك رسم وُجِد على سطح منحوتة من نينوى يمثل زوجة الملك أشور بانيبال.
المجموعة الثالثة
اندرجت المجموعة الثالثة تحت عنوان "حوار الحضارات في الفنون الإسلامية” حيث نشأ هذا الحوار في العصر الأموي، ما بعد 661م. عندما بدأت بلاد الشام تنفتح في فنونها الزخرفية على رموز هندسية عرفتها الحضارات السابقة.
ولم يتوقف هذا الانفتاح عند حدود الاقتباس، وإنما جرى تحوير بعضها، وأضيفت إليها مما ساعد في ظهور خصائص وتنويعات زخرفية جديدة لا سيما بعد اختيار عبد الرحمن الأول مدينة قرطبة عاصمة للدولة الأموية العربية في الأندلس عام 771 م.
ومنذ ذلك التاريخ ظهرت في الأندلس تأثيرات الحركة المتشابكة للزخارف النباتية التي عرفتها فنون دمشق قبل قرنين من الزمن، لا سيما إيقاعات نبات "الأكانتاس"، والمراوح النخيليّة، وشجرة الحياة، وظهرت نزعة تغطية السطوح بالزخارف المزدحمة، وعدم ترك مساحة خالية، وهي من أهم مميزات الفن الزخرفي الإسلامي الذي عرف في أوروبا باسم "الأرابيسك”.
من الأمثلة على العنوان زخارف من أشكال بيزنطية، منها القديس غريغوريوس النزينزي جالساً، مرتدياً ثياباً كهنوتية مزينة بزخارف نباتية غنيّة، ومرصّعة بالذهب.
أو فستان من قماش فيسكوز بخيوط من حرير، وبوليستر مطرز بنمط الشمس الذي يرمز إلى بعل، أو سجادة صلاة صنعت على أيدي مطرزين مسيحيّين للسوق الإسلامي، وهي سجادة حرير من خيوط ذهبية، وفي أشكالها أوعية معلّقة لحرق البخور غالباً ما يظن الناس إنها قناديل مساجد.
كذلك سجادة حرير مطرزة بخيوط فضية مزينة بأشجار سرو مبسّطة ترمز إلى الخلود من صناعة ذوق مكايل في جبل لبنان، وعباءة حرير زرقاء مطرزة بخيوط ذهبية.
ومن العصر البرونزي إلى العصر الإسلامي حملت الرموز معاني متواثة عبر الأجيال، ظهرت على أدوات الاستعمال اليومي، والشعائر، ثم انتقلت إلى الملابس عبر التطريز والتصاميم المنسوجة.
المجموعة الرابعة
في الطبقة العليا، شروح مستفيضة لتقنيات هذا التراث التاريخي، وتُظهِر أجيالًا من النساء في فلسطين، وسوريا، ولبنان طرّزن وفق قواعد ثابتة في التوزيع والألوان، والأشكال. هذه القواعد نادراً ما كانت تُشرح، بل تُمارس فقط وتنتقل من الأم إلى الابنة، وهي تمثل معرفة مكثّفة، ونحواً رمزياً أقدم من الكتابة، يحفظ ذاكرة الأساطير والطقوس والنظام الكوني.
وجاءت إحدى القصص وراء هذه الرموز من أوغاريت في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، تروي هبوط بعل، إله الخصب والمطر، إلى العالم السفلي، عبر جبال الأقرع.
من خلال هذه الزخارف، يظهر كيف نسجت النساء في القماش نفس القوانين الأبدية التي كانت ترويها أساطير بعل وعناة في الماضي، على شكل الحكاية.بذلك، أعطى التطريز شكلاً للعقيدة التي تقول أن "لا حياة من دون موت، ولا نمو من دون انحسار، ولا خصوبة من دون تجدد”.
ولا بد من التوقف عند مجموعة "الخيط المستمر"، إشارة إلى تجلّي التراث في مقاومة الفلسطيني للاحتلال عبر تكريس تراثه، وفنونه، فقد هدّد المنفى بإطفاء الرموز التي شكّلت جوهر الهوية الثقافية الفلسطينية، لكن من قلب الصراع، تحوّل التطريز إلى ساحة مقاومة، وبحلول السبعينات حاز التطريز الفلسطيني اعترافاً عالمياً.
لا يمكن سبر كلّ عناصر المعرض، لكن لا بدّ من الإشارة إلى أن الكثير من المجموعات، والأبحاث المعروضة، يعود إلى العمل الحياتي الطويل ل"هايكه فيبر" التي أسست مركز "عناة" في دمشق كمشغل، ومعهد بحثي في آن.
في معرض "نابو" هويتنا ورموزنا: أثقال رموز تكرّس استمرارية تاريخ المنطقة
الكلمات الدالة
75 مشاهدة
24 نوفمبر, 2025
77 مشاهدة
24 أكتوبر, 2025
69 مشاهدة
21 أكتوبر, 2025