بشاعرية مفرطة، متمازجة بالتكنولوجيا الرقمية، تدعو الفنانة جولي بو فرح الجمهور إلى سبر أغوارها عبر معرضها الفني "I Cloud”، في غاليري جانين ربيز على الروشة في بيروت، في مجموعة من اللوحات الفنية التشكيلية، جلّها وسائط متعددة أليفة في تداولها، متمازجة بالعناصر البيتية كالتطريز، والحياكة، ومتماهية مع تصنيع حديث كالطباعة على البلاستيك، والأكريليك، كما اختيار عنوان المعرض من برنامج تكنولوجي.
في اعتمادها على بعض العناصر المنزلية، تلجأ بو فرح إلى الذاكرة، فالمنزل الأول يكتنز كل ما يخطر على البال من ذكريات الماضي، والحاضر، فتعكس طريقة تناولها هذه العناصر شخصية طفولية، خصوصاً متى كانت خطوطها بسيطة، وألوانها، كما عناصرها المادية، شفافة، خفيفة في تعابيرها، تقارب الخربشات الطفولية.
كما لا تبتعد بوفرح كثيراً عن أجواء الطفولة في تسمياتها للوحات، كأنها جالسة وسط صالة المنزل، تتعامل مع ذاكرتها كأنها كل ما يحيط بها. هذه "شاشة"، وهذه "حديقة منزلي"، وهذه "سمائي"، و"خذني إلى البيت" كمناجاة لوالدها وهي طفلة.
وتحتل العنكبوت المتعايشة على زوايا المنزل حيّزاً من الأعمال، بينما هي تحوك الشباك راسمة خطوطاً رفيعة متعرجة كأنها خطوط تلاوين أو قلم رصاص بيد طفل.
رغم عدم وضوح الصور، وتداخلها في اللوحات، إلّا أنها تقارب التعبير بالكثير من التجريد المبسّط، تأكيداً على بساطة الرؤى والغايات، وتتضمن ضربات ريشتها، وأقلامها، حبكة خيوط وخطوط، وشبكة ممارسات متراوحة بين المنزلي، والرؤيوي خارجه.
تقول بو فرح إن المعرض "ينبثق من شظايا ذكرياتي" مما يعني أن ما عبّرت عنه لم يكن الصور التي اختزنتها الذاكرة، بل ما تبقى منها، بينما زال الباقي في تفاعلات الزمن، لذلك ف"المشاهد يلمسها: ناقصة، حية، تحمل الحضور والغياب"، كما تذكر.
في بعض الأحيان، تتخذ بو فرح بعضاً من شظايا عنصر، وترحل به إلى حيث هي تريد، لا إلى حيث هو يرمز، وتقدم مثالاً على ذلك لوحة "الصبار" (Cactus)، لافتة إلى أن "الصبار يبدو كمفارقة- مرن، ولكنه هشّ".
ترى بو فرح في عناصرها المختارة، صدى الذكريات، المفرح منها والمؤلم، فالصبار هو ك"أرشيف عضوي للصمود، أشواكه تحمي وتجرح، تمامًا مثل الذاكرة نفسها".
تصنع بو فرح أحياناً صورها، وتصوراتها من توليفات عناصر مختلفة، وتجعل لنفسها سماءها الخاصة، فلا هي سماء النجوم، أو الشمس أو القمر، ولا هي تلك المساحة الزرقاء اللامتناهية، بل إنّ "سمائي الشخصيّة هي كوكبة من آلاف السحب الخياليّة، كلٌّ منها تتخذ شكلها الخاص، وتحمل قصصها الخاصة، مشكَّلة بالحدس والعفوية”، كأنها رؤىً طفولية، أو أحلام منتصف نهار تطعن في العميق من العواطف غير المُحَقَّقة.
بذلك، تقول: "أفتح المجال لنتساءل عما نراه، وما نعتقد أننا نعرفه"، وتتساءل عما يجول في خاطرها، وإن كان هناك مصدر إدراك، وواقع آخر غير مرئي، أو مرئي بغير العين، دون أن تجد جواباً له.
وفي عدد من اللوحات، يظهر العصفور، كطير، أو كرمزٍ لما يتردد في المخيلة المفعمة ببقايا الذكريات، وهي لا تعرف ماذا تعنيه الطيور، ولا كيف تواردت إلى خاطرها: "هل تعكس الطيور تحليق الذاكرة، انعكاسًا لما تراه العين؟ هل هي في الواقع مدخل إلى واقع آخر؟"، تقول.
يحتار الانسان أحياناً في تجليات أحاسيسه ومشاعره، ولا يعرف منبعها، ولا من أين وصلته، ف"هل ننظر إلى رؤية داخلية، أم إلى شيء مختلف تمامًا؟" خالصةً إلى أنها "تُعاد صياغتها، وتتضاعف، وأحيانًا تُهاجم. تحل محل قزحية... في عيون الطيور".
عن الفنانة
ولدت جولي بو فرح في ضهر الصوان، وحصلت على درجة الماجستير في الفنون الجميلة من الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ALBA) عام 1991، حيث درّست لاحقًا. في عام 2007، انضمت إلى الجامعة اللبنانية كمحاضرة، وشاركت منذ ذلك الحين في العديد من المعارض في لبنان والخارج.
تشمل معارضها الجماعية الدولية معرض كورك (لندن، 2004)، ومعرض لا مارين وغاليري دي بونشيت (نيس، 1999)، ومعرض المجلس للفنون وفندق ريجنسي الدولي (دبي، 1995)، وروبونجي (طوكيو، 2018).
طوال مسيرتها الفنية، حافظت بو فرح على تواصل مع طفولتها الداخلية، وهي سمة تتجلى في مرحها، وعفويتها في أعمالها.
يجسد أسلوبها الخيالي الحياة اليومية في أبسط صورها وأكثرها سحرًا، مستلهمة الكثير من سحر العالم وحيويته، ذلك أنه، بالنسبة لبو فرح، "العالم ملعبها والقماش مسرحها”.
تظهر الأطفال والحيوانات بشكل متكرر في لوحاتها، مثل لوحة "دائرة الحياة" (1992)، التي أكسبتها لقب فنانة اجتماعية في صالون الخريف في القصر الكبير بباريس. في عام 1999، فازت لوحتها "Le Manège" (سوق المرح) بالجائزة الأولى في بينالي هنري ماتيس السادس عشر للفنون المعاصرة في نيس، فرنسا.
تتميز أعمالها باستخدامها المتناغم والحيوي للألوان، ونهجها البديهي، وتصويرها البسيط والمتطور للفضاء - احتفاءً ببهجة الحياة وعفويتها.
الكلمات الدالة
12 مشاهدة
12 ديسمبر, 2025
98 مشاهدة
24 نوفمبر, 2025
111 مشاهدة
13 أكتوبر, 2025