يتواصل معرض "طرابلس الشام- جولة مصورة مع البطاقات البريدية"، ويتكوّن من صور البطاقات البريدية الموثِّقة للتاريخ الحديث لعاصمة لبنان الثانية- طرابلس، وتحوّلاتها، وتُظهر مواقع شهدت تغييراً جذرياً، وبعضها زال من الوجود كلياً، وبحسب المنظمين، لم يطل التوثّيق كل المواقع الرئيسية في المدينة، واقتصر على ما هو متوافر مما يعكس إلى حدّ بعيد بعض الجوانب العمرانية، والاجتماعية لطرابلس.
تعود البطاقات لمجموعة بدر الحاج، أحد مؤسسي متحف "نابو" الواقع في منطقة الهري شمالي لبنان حيث يقام المعرض، ويعود تصويرها إلى عدد من مصوري حقبة مطلع القرن الماضي، أمثال صرافيان أخوان، وصرافيان وصبحية، وميشال دافيد، وسامي غربيديان، وزبليط، والأخوة نوردايم، وفوتو سبور، ومنها يعود لمؤتمر آثار سوريا وفلسطين، وAu Bon Marcheَ، وسواهم.
يعود المنظمون لموظفَين عثمانيَّين، هما بهجت ورفيق التميمي، اللذين تناولا المدينة المسماة "طرابلس الشام" على ما كانت عليه عام 1915، ووَصْفَهما للمدينة بأنها "أبهى بلدة على ساحل سوريا، ومعرض فخم للبدائع والمحاسن" على ما ورد في كتابهما عن طرابلس الشام. كما يستندون إلى وصف الرحالة الانكليزي جون كارن عام 1831 لطرابلس بأنها "أجمل المدن حيث تختلط المنازل بالبساتين”.
حتى الأمس القريب، وأبعد مدىً زمني هو مطلع خمسينات القرن الماضي، كانت بساتين الحمضيّات والبرتقال بروائحها الرائعة وأشجار الزيتون القديمة تغطي المساحة ما بين البحصاص، وساحة عبد الحميد كرامي، كما كانت البساتين تلفها من جهات الجنوب والغرب والشمال، فيما يعرف بمناطق السقي، ولا يزال الشمالي منها قائماً ببساتين واسعة من الليمون.
لكن تطورات العصرنة التي ضربت المدينة، أتت على غالبية البساتين الغربية والجنوبية، خصوصاً مع إقامة "معرض طرابلس الدولي -معرض رشيد كرامي" ستينات القرن الماضي، على مساحة مليون متر مربع، وتحوّلت بساتين المليونين المتبقيين إلى مشاريع عمرانية، انضمت هي ومثيلات لها في السقي الجنوبي، لما عُرِف لاحقاً بمنطقة الضم والفرز التي تعتبر نبض المدينة الحديثة، حيث حلّت فيها مئات الأبنية الباطون، وتراجعت فيها المساحات الخضراء بما لا يقل عن ثمانين بالمائة تقديراً.
المعالم الطبيعية السابقة تبدّلت، وخسرت المدينة خضارها، وزالت بالتوسعة الكثير من المباني التراثية الجميلة والحقول الخضراء. على سبيل المثال، في ساحة التل هدمت السراي العثمانية، والقشلة، ومسرح الانجا، وغاب المصورون الأرمن واليونانيون، واكتسحت المباني الاسمنت الحدائق والبساتين.
تتحدث ملاحظة معلّقة على مدخل المعرض أن البطاقات البريدية عن طرابلس قليلة مقارنة ببقية المدن العربية كدمشق وبيروت والقدس، ومن كان يقصد طرابلس من سواح ورجال أعمال غربيين، كان عليه أن يستقل باخرة من بيروت، أو أن يسلك الدرب الطويل البري بواسطة عربات الخيل (الدليغانس) التي تجرّها الخيول، فالطريق بين طرابلس وبيروت لم تنجز قبل 1910.
كما يقول منشور معلق في المعرض: فقد نهر أبو علي القديم جماله، واصبح (محيطه) خاوياً إلا من البشاعة الباطونية الخالية من الحياة. بينما كانت المنطقة تُلَقّب في خمسينات القرن الماضي ببندقية الشرق، النابضة بالحياة من خلال جسور حجر معلقة تربط بين ضفتي النهر، والأبنية والمنازل تطل على البحر من بعيد.
طوفان 1955
تركز العديد من البطاقات على المقارنة بين طرابلس القديمة التي كانت قائمة على ضفتي نهر أبو علي، حيث كان النهر ينساب بين البيوت، والبساتين التي أقيمت فيها المجالس والمقاهي فيما عُرف ب"مجتمع النهر"، وكانت مدينة جميلة، هادئة، قريبة في تكوينها، وحياتها العمرانية والاجتماعية من العديد من مدن المتوسط الواقعة على ضفاف االأنهر كالبندقية الإيطالية.
ويحدث إنه في العام 1955، اشتد هطول الأمطار، ووقع طوفان غمر مئات البيوت والمنازل، ووصلت سيوله إلى أحياء بعيدة في المدينة، مما تسبب بكارثة إنسانية غير مسبوقة، قضت على "مجتمع النهر"، ودفع المئات من المواطنين حياتهم بسبب الطوفان.
منعاً لتكرار المأساة، وضعت الدولة اللبنانية ستينات القرن الماضي مخطّطاً لتوسيع النهر، وتقويم مجراه، فقضى المشروع على المئات من الأبنية التراثية، والمواقع الهامة.
الترامواي
ظاهرة اتسمت بها مدينة طرابلس هي الترامواي الذي تجره الأحصنة والدواب، أحد أشكاله خُصِّص لنقل البضائع من مرفأ المدينة عبر بساتين الليمون في طريق حديد عبرت ما يعرف اليوم ب"بولفار الميناء"، ومنه إلى التل، فالزهرية، فالتبانة التي كانت سوقاً لتصريف البضائع والمنتجات، تصبّ فيها من كل المناطق، وتتوزع على مختلف المناطق حتى الداخل السوري.
الشكل الثاني للترامواي هو ما عُرف بال"ديليغانس"، وهو من طبقتين، العليا منهما للركاب الأثرياء.
ويروي منشور عن الترامواي إنه عندما كان مدحت باشا متصرفاً على طرابلس، أسّس شركتين، الأولى شركة الترامواي لتأمين المواصلات بين الميناء وطرابلس، والثانية تسمى "شوسة" لتأمين المواصلات من طرابلس إلى حمص وحماة، وهو عبارة عن عربات تسير على خط حديد تجرها الخيول والبغال.
الشركة الثانية لديها عربات "الديليغانس" مؤلفة من طبقتين تجرها ستة خيول، وعربات أخرى تسمى "كارو" لنقل البضائع، تسير في قوافل تتألف كل واحدة منها من 25-30 عربة، وقد أنشأت هذه الشركة الطريق المعروف المؤدي إلى حمص وحماة، وأقامت الجسور فوق الانهار والوديان، ولها محطات على الطريق، وفيها موظفو ياخورات تضم عددا من الخيول لاستبدالها بالخيول المتعبة. أما المسافر من طرابلس إلى حمص فكان يركب "الديليغانس" منذ منتصف الليل ليصل حمص بعد غروب اليوم التالي.
غاب الترامواي عن المدينة عند توسيع شوارعها، وفتح شوارع جديدة، كان أولها، وأبرزها شارع عزمي-على اسم والي طرابلس أواخر الزمن العثماني، وهو شارع مستقيم بطول أربعة كيلومترات، يصل شارع التل-قلب المدينة الحديثة- بالمرفأ.
ودخلت المدينة وسائل نقل حديثة، فغاب معها الترامواي، كما عربات الخيل على الدواليب لنقل الركاب، وكذلك تراجعت "الطنابر" التي خصصت لنقل البضائع، ووسائل العمل والبناء.
بركة البداوي
من المحطات البارزة في تلك الحقبة بركة البداوي، وهي بركة وسط بساتين الليمون أطراف السقي الشمالي، مياهها غزيرة وباردة من نبع فيها، تشكلت حولها مجالس الاستراحة الصيفية، ويعرف عنها أن كل زائري المدينة من وجهاء عرب وأجانب، وفناني ومبدعين زاروا طرابلس لغاية ما، كان لا بد لهم من الاستراحة على البركة، للترفيه والاستجمام.
لا تزال البركة موجودة، وجرى تحديثها بطريقة ألغت طابعها التراثي، ولم تعد مقصداً إلا لسكان الحي الذي تقع فيه.
تحولات كثيرة تناولتها البطاقات، أبرزها تحولات ساحة التل التي شهدت نهضة عمرانية وتجارية راقية منذ بداية القرن الماضي، وزوال بعض أبنيتها التراثية كمسرح الانجا، والسراي الحكومية، والقشلة، وأبنية تراثية أخرى، بسبب جهل أهمية التراث، وذلك حتى أواسط القرن الماضي.
"نابو" يوثق "طرابلس الشام" وتحولاتها بالبطاقات البريدية

الكلمات الدالة
16 مشاهدة
13 أكتوبر, 2025
17 مشاهدة
11 أكتوبر, 2025
22 مشاهدة
11 أكتوبر, 2025