"مدٌّ وجزرٌ دائم بين السكينة وجنون هذا العالم الذي نحيا فيه". بهذه العبارات يلخص الفنان اللبناني غسان زرد معاني وأبعاد معرضه الجديد تحت عنوان "مذابح" (Altars) المقام بالتعاون بين غاليري تانيت، ومؤسسة عودة، في فيلا عودة التراثي في الأشرفية.
هكذا بعد عقود من التفاعل مع الفن من زوايا بصرية- حسيّة، يتحول الفن إلى فلسفة وجودية، تبحث في الانسان، في رغباته، وأسراره، وآهاته، بعد أن يكون قد عبر مراحل الفن البصرية كمتعة ذاتية، ولعبة تكييف الحياة مع المرتجى.
فبالنسبة لزرد، هذا العمل "سعيٌ نحو المطلق"، هناك، تستقر الروح بعد معاناة مع الجسد، وواقعه، فتصبح الحياة "كرحلةٍ روحيةٍ تنتهي إلى الصمت”.
وفي عصر شاء قادته، وصانعو قراراته، أن يكون مضطرباً، مشوباً بالعنف على الدوام، يرى زرد أن "القسوة تشتد مع تراكم الازمات، وتصاعد العنف". لا يريد الانسان هذه الوجهة التي زُجَّ فيها، فهو يؤثر أن يكون مساره أكثر رقة ولطفاً لتمرّ التعقيدات بسهولة، إن على المستوى الطبيعي، أم على المستوى العام الاجتماعي-السياسي.
لكن المسار يخالف الرغبات، وتنتفي مع الفنان في بداياته العناصر المعتمدة الجمال إطاراً للفن، لتصبح العناصر منساقةً ببعد الزمن، وتراكم سنيه.
أقسام المعرض ثلاثة مذابح، تتوزع أبعاداً وجودية، فلسفية العمق، والتأثر. إنها خبرات المعاناة البشرية التي تبدأ في الولادة، ولا تنتهي. مذبح "أوردة الصعود" (Veins of ascent)، كجذور أشجار موزعة على اللوحات التشكيلية، تتخذ مسار التصاعد من الأعماق السفلى إلى اللامنتهى الأعلى. توقٌ للبحث عن خلاص من "الدون"ـ الأرض والواقع- في "الأعالي".
زرقة شمولية تشي بفضاء أزرق لامتناهٍ، تقصده الجذور لعلها تجد مرتعاً تنطلق منه نحو ذاتها، لتتبرعم، وتورق، وتكمّل نزوعها الطبيعي نحو الكمال الذي لا يتحقق.
رغم تجريدية دائمة لدى زرد، حيث لا مُتّسَعٍ للتفسير، لكن تجريدياته مبسّطة بانسياب، وبساطة، مع خدوش قليلة، وجروح عابرة من أسفل الاعمال، إلى أعلاها، قد تحتجّ على التفسير، لولا تشاركية الفن والحرية.
مذبح "خرائط ما بين البينين" (Cartographies of the In-Between)، يمكن فيه قراءة حركة متعاكسة بين الصعود والهبوط، كأنه يسعى لفتح ممر بين قطبين، ويتحوّل العبور إلى طقس. في هذا المذبح، يتجسد النزاع بين الرغبة والانتكاس تحت وطأة ظلام العالم الذي لم يترك كوّة نور نحو أمل يفترض أن يتحقق، لكن النكسات والخيبات حالت دون تحققه.
المذبح الأخير "الأجراس بعد الاحتراق" (The Bells After the Fire)، يدفع للتساؤل عما يجعل أجراس الكنائس محترقة؟ مُعَبّر عنها بمجموعة منحوتات نحاس، على انحناءات الأجراس، تاركاً للمشاهد التفسير، عندما لم يعد للتجريد مكان للتماهي.
لكن السياق العام لمعاني العمل يضع الصورة في ظل مذبح حيث تتحقق الصلاة على الأضاحي.
بين سياقات الألوان، وتناغمها، على يد منسِّقها مارك معركش، وتوزع الأجراس، تتناغم المذابح لتكمل مشهد الآلام من مختلف الاتجاهات، ولتتصاعد بحثاً عن خلاص.
زرد
زرد فنان تشكيلي رسماً ونحتا، مواليد 1954، يعيش في بيروت، ومنذ سنوات طويلة، يتناول عمله موضوعات العنف والخوف والتجريد، متأثراً بالأدب الياباني وبدراسات التحليل النفسي.
بدايات زرد تأثرت بالتجريد الغنائي، ولوحاته الكبيرة تنبيء بكون إيقاعي ملوّن.
شارك زرد في العديد من المعارض الجامعة، منها "كان يا ما كان" في تانيت، 2022، و"شيء ما أزرق" في لندن 2021، ومعارض أخرى في فيرونا 2021، وفي باريس 2022، وسواها من معارض.
يقول زرد: "كنت دائماً أرسم ما أعجز عن قوله، وأنحت ما أخشى أن أشعر به”، فلم يكن طريقه نحو الفن مألوفاً، لكنه لم يكن وليد صدفة، فقد بدأ مسيرته كطبيب أسنان لثماني سنوات، وأدواته الجص والريزين وأدوات الحفر – وجدت طريقها من الترميم إلى التعبير، ومن خدمة الجسد إلى تحرر الروح من أثقالها.
عام 1985، أقام معرضه الأول في Épreuve d’Artiste كسليك، ليتبعه عام 1989 معرض ثانٍ في صالة غابي ضاهر بدارو.
التطورات الأمنية أوصلت زرد إلى باريس، فالتحق بـ Ateliers de Paris. وفي مدينة ميونيخ أضاف بُعداً جديداً عبر التعاون مع Galerie KEMPF.
عاد ليعرض في لبنان عامي 1995 و 1998، واستقر مجدداً في بيروت عام 2000 حيث افتتح غاليري للتحف، وعاود خلق صلته بالمدينة.
عام 2008 إفتتح معرضاً فنياً في Galerie Rochane، ليبدأ بعد ذلك شراكة طويلة الأمد مع Galerie Tanit عام 2012. ومنذ ذلك الحين، أصبحت تانيت فضاءه المتكرر ومنصته إلى العالم، حاضنةً معارضه في بيروت وباريس وفيرونا، ومرافقةً لأعماله في المشاريع الخارجية والمعارض الدولية.

الكلمات الدالة
21 مشاهدة
13 أكتوبر, 2025
21 مشاهدة
13 أكتوبر, 2025
26 مشاهدة
13 أكتوبر, 2025