انتقلت أوراق غزة من منزل الفنان مصطفى عبيد، متراكمة يوميات قصيرة، ترافقها جدارية ضخمة، ولوحات تشكيلية، إلى كلية الفنون والعمارة في الجامعة اللبنانية، لترفد المنتدى البصري الثاني للفنون والعمارة بزخم معرض متكامل، فريد، ثريّ، تَعْبُر مادتُه من الحرب الأهلية اللبنانية، مروراً بالسابع من تشرين الأول- طوفان الأقصى- لتستقر في غزة، رافعة الصراخ اللوني بما لا يصدقه العقل.
الجدارية
اهتم الفنان عبيد بالجداريات، وكانت جزءاً من اختصاصه، ومما صنعه من جداريات كانت "الحرب الأهلية اللبنانية"، لكن ببعد ينفي الصراع ويؤكد التوافق والسلام. فعلى مسافة 19,5 متر امتداداً أفقياً، بارتفاع 122 سنتم عرض عبيد مراحل الحرب، والبداية بحمامات سلام تلهو في سماء لبنان، لتبلغ بعد قليل مرحلة بوسطة عين الرمانة.
وتتسلسل الأحداث بأشكال ورموز لونية، لتمرّ في الاجتياح الاسرائيلي لبيروت، وتطورات الثمانينات، بلوغاً نهاية الجدارية للدعوة للتلاقي، والتحاور، والحفاظ على الوحدة الوطنية.
رافقت الجدارية لوحة شاءها نداءً بصرياً بألوان حمراء، وبنية فاتحة، تعبيراً عن الودّ، والتقارب، هي لوحة الوحدة الاجتماعية، ومعها لوحة أصغر حجماً بالهدف عينه.
مدير فرع الكلية الدكتور عصام عبيد تناول الفنان مصطفى بكلام ل"ردبيس" إنه فنان ملتزم بقضايا الوطن، وطابع اعماله تتصل بالشؤون الانسانية، والمعرض أقمناه له لفتة تكريم يستحقها لمنجزاته".
يُذكر أن الفنان عبيد تلقى درعاً تكريمية من عميد كلية الفنون والعمارة في الجامعة في احتفال أقيم في معرضه الذي احتل صالة كبيرة اتسعت لجداريته، ولمئات اللوحات من أعماله على صلة بالحدث الغزي، ولوحات تشكيلية ترمز إلى "طوفان الأقصى".
أوراقغزة
صبيحة الهجوم الوحشي على غزة، قضى فيه آلاف المدنيين الأبرياء الفلسطينيين، ثمّة تساؤل يطرح نفسه: من استطاع الاحتفاظ برباطة جأشه، ولم يتوجّع، ويتألم لهول المشاهد؟
من جهته، الفنان عبيد امتشق قلماً، وريشةً، وقطعة "كانسون"، ورسم برمزيته المعتادة ارتدادات المجزرة في مخيلته، وكتب: "صباح النصر لغزة العزة رغم الوجع، صباح النصر لغزة الكرامة رغم القهر، صباح الحق لأهل الحق ولا قوة للباطل، بوعد من الحق أتاك النصر يا غزة”.
بهذه العبارات عالية الانفعال، زيّن عبيد أولى أوراقه التي شكّلت كل واحدة منها لوحة فنية، واستمرت على هذه الحال يومياً، لأكثر من أربعماية يوم، اختار منها زهاء 230 لوحة للمعرض.
لم تكن اللوحات كبيرة الحجم، بل أوراق مما طالت يده وهو يتلقف الأخبار الصباحية عن مجزرة العصر. كاد يجنّ أمام هول المشاهد، ولم يكن أمامه سوى التعبير بالرسم الذي يحترفه باتقان، بديلاً من الصراخ والتألم.
كان بحاجة للأصدقاء يشكو لهم المعاناة، ويشركهم بها لعله يخفف عن نفسه وطأة الكارثة، وهو مدرك أنهم مثله، في المعاناة عينها، كل يعبر عن ذاته بطريقته. كان عبيد ينجز الرسمة في دقائق، ويرسلها "صبحيةً" للأصدقاء، فكانت شفاءً لغليل ينقذ من شعور بالموت من هول المجزرة.
وراح كل صباح يكرّر التجربة بطريقة مختلفة، فتجمعت لديه أكوام فنية غطت الطاولات، والكراسي، ولم يبق متسع في البيت للمزيد، وكأن وقف النار المؤقت للقصف الهمجي على غزة حلّ ليخفف وطأة عبيد، فأرخى قلمه، وريشته في استراحة المحارب بعد أن عبّر عن رؤاه بالكتابات والألوان والأشكال الكثيرة، ومما حملت بعض لوحاته:
"أيها الحكام العرب إياكم أن تخبروا أحفادك إنكم انشغلتم بإنجازاتكم العظيمة فصنعتم أكبر صحن تبولة، وأعظم طنجرة مقلوبة وأفخم منسف باللحم وألذ طبق كشري وأروع موسم فني للرقص والغناء بينما شعب غزة يبادون”.
"طال أمد الحرب على غزة مع ما رافق ذلك من قتل ودمار ومجازر على يد الإجرام الصهيوني ومعاونيه وليتبع ذلك الإجرام الجنوب اللبناني كل ذلك على أعين الدول التي تدعي السلام والحرية للشعوب ألا بئس ما يدّعون”.
"سقط الظلم وسطعت شمس الحرية .. ولن تحجب الغيوم شمس الحرية عنك يا غزة العزة وكل فلسطين”.
"إن ضمائركم يا حكام العرب والعالم أمام هول المشاهد التي يرتكبها العدو الصهيوني المجرم في كل من لبنان وغزة. نظموا حفل عشاء كبير، ولا تنسوا كاتشاب دمائنا، ولا فلفل قهرنا، ولا عصير دموعنا، ولا" مونامور" صراخنا”.
"ألا يدرك هؤلاء السفاحون كم سيصبح تعايش كيانهم الصهيوني الإرهابي المتوحش بسلام في محيط من الكراهية والاحتقان الكبير اللامحدود وهو سلام يدّعون إنهم يسعون إليه”.
"الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة يتصل أولها بظلمة الرحم وآخرها بظلمة القبر (عن مصطفى لطفي المنفلوطي).
"عذراً غزة، قلوبنا موجوعة، أيادينا فارغةلا نملك سوى الدعاء والرسوم التعبيرية، فتارةً يأخذنا الغضب، وتارة يكسرنا العجز وتارة تستسلم للبكاء”.
"إلى المبهورين بالقوانين الدولية ومنظمات حقوق الانسان، عن أي قوانين تتحدثون وعلى ماذا تراهنون والعدو الصهيوني المجرم يجاهر بالقتل والتدمير في قطاع غزة غير آبه بالقرارات".
الفنان
يروي مدير الفرع عصام عبيد أن "الفنان عمل 35 سنة في الكلية يُدَرِّس الفنون التشكيلية، وخرج دون أن يحصل على التثبيت، والتقاعد لأسباب غير مفهومة، وقد عرفناه استاذاً ملتزماً بفنه، وبمواقفه الوطنية منذ بداياته الفنية”.
وقال إنه في الثمانينات وضع جدارية عن الحرب الأهلية لكن بروحية السلام، والرفض للحرب، فبرأيه أن كل الشعب اللبناني يجب أن يعود للالتقاء، بشكل موحد في الحرب الداخلية، وعلى صعيد العدوان الخارجي، وهذا العام، أهدى الجدارية لجامعته التي انتمى إليها، وأحبّ، رغم الظلامة التي لحقته من إدارتها".
أما معرضه الحالي فهي، إلى الجدارية، أعماله اليومية المواكبة لمجزرة غزة، فكانت، بنظر عبيد "صرخةً منه بأسلوب شخصي للتعبير عن رأيه”.
124 مشاهدة
04 يوليو, 2025
71 مشاهدة
04 يوليو, 2025
134 مشاهدة
04 يوليو, 2025